4 يوليو، 2020
الحوار الجزائرية
وطني

تفسير سورة البقرة

تفسير المؤمنين للشيخ أبو جرى سلطاني

الحلقة 22

“رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ”

فما هو دور هذه الآلهة الأخرى إن كانت موجودة؟ وما قيمة هذه الآلهة التي تزعمون أنها وجدت لتكون “ندًّا” لله؟ هل سطَّحت أرضا أم رفعت سماء أم نصبت جبالا أم أنزلت من السماء ماء، أم ساهمت في إخراج الثمار من الأرض؟ كيف تجعلون لله أندادا وأنتم تعلمون أن الخالق الرازق الواحد الأحد الفرد الصمد؟؟ ما هي وظيفة هذه الأنداد؟وهل تعمل وحدها أم “تتعاون” مع الله وهو أغنى الأغنياء عن الشرك وما كان ليتخذ المضلين عضدا؟ هل خلقت هذه الآلهة أحدا؟ هل رزقت دابة؟ هل هدت ضالا؟ هل أغنت عائلا؟ أين تتجلى قدرتها؟ في أي مجال تمت تجربة قوتها؟ على أي أساس استحقت “الندّية” مع الله “فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون” تعلمون أنه لا ندَّ له، وتعلمون أن أصنامكم التي تعبدونها وأوثانكم التي تتقربون بها إلى الله مخلوقات مثلكم، وعلمكم بهذه الحقائق يسقط احتمال وجود الشبيه ووجود الشبيه ووجود الند معه، والتجربة في حياة المشركين تنافي هذه المعتقدات كلها عند عامة المخاطبين من الناس.

سبحانك لا إآـه إلاّ أنت

تخلق ويُعبد غيرك

وترزق ويُحمد غيرك..

فهل يشكل على ذي عقل أن يصيح بأعلى صوته  “رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ” آل عمران 191، لأنه لا يوجد وجه واحد للمقارنة بين الخالق الرازق والمخلوقين المرزوقين  “أفمن يخلق كمن لا يخلق”؟ !؟ فما بالك بالحديث عن النظير والمثيل والشبيه والشريك والصاحبة والوالد!؟

وحتى لو تجاوزنا علمهم بكذبهم، وهم يعلمون أنهم يكذبون على الله وعلى أنفسهم، فإن للإدعاء أصولا وللكذب قواعد يعلمها الكذابون ولاتخاذ الأنداد مبررات ودوافع ومصالح ومقاصد..فهل يستقيم في العقل أن يكون لله ندًّا لله خلق الناس اليوم أو “ساهم” في خلق من كانوا قبلهم من الناس ثم تخلى عنهم وترك رزقهم غيره؟ وهل يسقرّ في الذهن الزعم بأن هناك من “شارك” الله (جل جلاله) في جعل الأرض فراشا والسماء بناء ثم سكت فلم يعلن عن وجوده بأثر ولا بخبر؟ وهل يصدق نصف مجنون أن الأمطار النازلة من السماء وفق نظام عجيب “يتعاون” رب السماء والأرض مع غيره من الأنداد لإنزالها بقدر معلوم ثم لا تقول لنا هذه الأنداد: ما هو حجم ما أنزلت وماهو قسطها مع الله؟؟ وهل يملك أحد من هذه الملايير البشرية أن يقول لنا: إن ما يخرج من الأرض من عشب وأشجار وخضروات وفواكه وأشجار باسقات وحدائق غلب..هي مجرد عملية ميكانيكية خاضعة لأسباب رتيبة أو اشتركت في إداراتها آلهة كثيرة !! وكيف نفهم حديث علماء الزراعة عن الجفاف والفيضانات والمحصول الوفير..في سياق حديث عن الجوائح التي تصيب المحاصيل فيذهب بوفرتها وخيراتها ويعم الغثاء واليباب..الخ؟

إن مجرد الإدعاء بأن لله أندادا هو تسفيه لعقل أصحابه المدعين قبل أن يكون عنتا في حق الموحدين أو تطاولا واستعلاء على رب العالمين، والذين يفعلون ذلك يعلمون هذا السَّفه، ولكنهم يمارسونه للمخالفة ويفرضونه على عقولهم الرافضة لهذا المنطق المشين لحماية مصالح ضيقة، لأن العقل خلقه الله “منطقيا” مع ذاته ومهما حاول المكابرون ليّه ليناقض ذاته المنطقية فإنه يردها إلى صوابها ويبهتها أمام سفهائها ” فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”، لا تحاولوا هذه المحاولات الهابطة وأنتم تعلمون أنها هابطة وساقطة ومتهافتة من تلقاء نفسها..

ولكن، لماذا يبحث الناس عن إآـه وهو موجود؟ ولماذا تحاول بعض العقول الكليلة والنفوس المعتلة اللئيمة والقلوب المريضة السقيعة، أن تجعل إلـها ندا لله وأصحابها يعرفون أن هذه الفكرة باطلة من أساسها؟

لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا إلـه يركن إليه في لحظات الضعف والوهن، ويفزع إلى حوله وقوته ساعة تحزبه خطوب الحياة، فالبحث عن “المعبود” حركة فطرية في عمق كل آدمي، حتى الفراعنة والقياصرة والأكاسرة الذين يعترفون بوجود إلـه إنما “يمثلون” على أنفسهم مسرحيات الإدعاء الفارغ والإنتفاش الباطل والزعم الممجوج، أمام جماهيرهم في لحظات النشوة والاستعلاء، فإذا أحاطت بهم أمواج المخاطر خرجوا من المسرح الإفتراضي إلى واقع الحياة وصاحوا بأعلى أفواههم  كما صاح فرعون مصر- بكلمات الإيمان بالله الواحد وإعلان الإسلام له  “حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ” يونس: 90، فالفطرة لا تكذب على نفسها لأنها محكومة بعهد الإيمان الفطري الأول المركبة في ذرات التكوين، ولكن رانت عليه شهوات الإستعلاء في الأرض أيام الرخاء، فإذا جاءت أيام الشدة سقطت أقنعة الإستكبار وقامت الفطرة تصرخ سائلة النجاة من ربها الواحد لا من أنداده المتفرقين.

إن فرعون لما أدركه الغرق آمن، وقال: أنا من المسلمين !!

بعد هذه الجولة الإيمانية مع الخالق، الرازق، الممهّد للأرض والرافع للسماء بلا عمد، والمنزِّل من السماء ماء، والمخرج من الأرض ثمرات رزقا لمن استدعاهم بعلمه وقدرته ومشيئته إلى العيش في هذه الحياة الدنيا، وهو الناهي عن اتخاذ العباد أندادا لله وهم يعلمون بطلان هذا الزعم، أقول: بعد هذه الجولة الإيمانية يدفعنا المولى (جل جلاله) إلى جولة أخرى لتبديد ما علق في النفوس من شكوك وما حام حول العقول من شبهات، فيقول ” وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)” البقرة:23 /25.

إنه خطاب تحدّ من عالم بأن التحدي سوف لن يواجهه أحد إلى قيام الساعة، ولو لم يكن الأمر كذلك لجعل له تاريخا ينتهي عنده، لكنه تركه مفتوحا ليظل كلام الله منزها عن كلام جميع خلقه أن يختلط به أو يضاهيه، فالتحدي موجّه لجميع المرتابين في وحدانية الله (جل جلاله) أو في فردانية كلامه، لأنه صفة من صفاته، أو في دقة المنهج الإيماني وفي تفرد الله (جل جلاله) بالربوبية والألوهية والكلام، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر..إذْ “ليس كمثله شيء” فقد تفرد (سبحانه)، بإرسال الرسل لبيان منهجه للناس، وتفرد بهذا المنهج القرآني بالإعجاز والعلوّ وعرض نفسه للمنازلات على كل الجبهات، وهذه المرة يعرض نفسه لمنازلة تحدي المشككين في صحّة آيات المنهج ومفرداته وكلماته ومعانيه “وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ” ولم يرد ربنا (عز وجل) أن يقول لهم “وادعُ أنداد الله” الذين زعمتم لأنه (جل جلاله) يعلم أنهم كاذبون في ادعائهم وهم يعلمون أنهم كاذبون، ولذلك أراد أن يكون التحدي مفتوحا لأوسع ما يمكن أن تتسع إليه دائرة “شهدائهم” واستثنى فقط ذاته (جل جلاله) حتى لا يستعين أحد بطاعته على معصيته، ولا يقولن أحد: لقد أثبت رب محمد لنا أندادا وطلب منا الإستعانة بهم !! لذلك دعا الله كل من في قلبه ريب مما نزله على عبده، ورسوله محمد (ص) أن يستعين بمن يريد، من الإنس والجن، وبكل من يستطيع أن يشهد هذا التحدي وأن يكون بعضهم لبعض ظهيرا، لرفع تحدي الإتيان بسورة واحدة “تشبه” هذا القرآن، لذلك لم يقل “فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ” بل قال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ !! مما يشبهه أو يدانيه قوة وفصاحة وبلاغة وانسجاما واتساقا وحديثا عن “غيب” لا يعرفه أحد من الأولين والآخرين، بمن فيهم أهل الكتاب الذين كانوا يزعمون أن بين أيديهم أخبار الأولين و”أسرار” “التابوت” وطقوس “الصّلب” وما تتلوا الشياطين على ملك سليمان (ع) !؟ فأين هذه الكتب التي يزعم هؤلاء أنها من عند الله؟!.

فالتحدي مفتوح في الزمان، لأن الله لم يضبطه بوقت، كأن يقول لهم: خلال أسبوع أو شهر أو سنة ينتهي  بعدها تاريخ العرض، وتكون الغلبة بعد نهاية هذا الأجل لصاحب المنهج، بل تركه مفتوحا إلى يوم القيامة حتى لا يقول مرتاب اليوم أو يردّده مرتاب آخر غدا أو بعد غد: إن التحدي كان خاصا بمشركي مكة فصحاء العرب ثم بالمرتابين من اليهود والنصارى في يثرب (الذين كانوا أهل فصاحة وبلاغة وبيان) ثم ومن شايعهم من عرب الجزيرة وما حولها إلى تخوم فارس والروم..

نقول له: إن التحدي مازال قائما، لأن الله لم يحدده بزمان ولم يؤجل له أجلا مسمى “فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ”، كلما أحسستم أنكم قادرون على فعل ذلك، في أي زمان من يوم نزول الوحي إلى أن ينفخ في الصور.

والتحدي مفتوح في المكان أيضا، لأن الله تعالى لم يقيده بمساحة جغرافية محدودة هي شبه جزيرة العرب، وإنما وسّع نطاقها المكاني إلى كل الأمكنة التي يصلها القرآن ويسمع أهلها بأن هذا القرآن رفع تحدي المنازلة البلاغية للناس أجمعين، وجعلها “مسابقة” مفتوحة بلا أجل زماني وعامة بلا حيّز مكاني، ومستغرقة للمخلوقات كلها  “وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ”، إذا كنتم صادقين في كفركم بالوحي!!.

والتحدي مفتوح لجميع الأجناس البشرية من المشركين، والمنافقين، واليهود، والنصارى، وجميع أتباعهم وأشياعهم من الإنس والجن..وكل من يمكن الإستعانة بهم، أوهم قادرون أن يشهدوا هذا التحدي ويقدموا شيئا من العون للمرتابين في ما جاء به رسول الله(ص) من عند رب العالمين.

إن أول ما تجب معرفته، في درس هذه الجولة هو أسباب وبواعث الشك الذي حام حول نزول القرآن الكريم، برغم أن الله جلت قدرته، قد صنع بعينه مسارا صافيا صادقا أمينا لمن كان يعدّه لحمل هذه الرسالة العالمية، فعلى مدار أربعين عاما الرابطة بين ميلاده (ص) وبداية نزول الوحي عليه، عرف أهل مكة وسادتها وكبراؤها حياته يوما بيوم، ووقفوا على أدق ما فيها من تفاصيل و”يوميات” لا تخفي أية خصوصية لهذا المولود القرشي، في سلسلة تشبه من جهة الأب وحسبه من جهة الأم إلى إبراهيم (ع)، فقد سمع أهل يثرب بميلاده ورضاعته ووفاة والده قبل أن يخرجه الله من رحم أمه إلى هذه الدنيا لأنهم أعمام من قريش وأخواته من بني النجار في يثرب، وأصهار والده، وعرف كثيرون من حول مكة والمدينة  وعلى تخوم الشام- أخبار صدقه وأمانته ووفائه من تجربته الأولى في رعي الغنم ومن تجربته الثانية في التجارة بأموال خديجة (رضي الله عنها) وخلال رحلاته مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو ابن اثني عشرة سنة، بل إن بعض القساوسة الذين تذكر منهم كتب السيّر بَحيَرى الراهب (في بصرى الشام) كانوا قد عرفوا شيئا من هذا الإعداد الرباني له،  بما رآه هذا الراهب فيه من علامات نبوّة مكتوبة عندهم في كتبهم القديمة..الخ، فمن أين وُلد في نفوس البعض من هؤلاء المشركين هذا الريب؟ وهل كان شكهم في النص المنزّل عليه أم في صدق النبوّة نفسها أم في شخصه الذي ما جربوا عليه كذبا قط، فقد دونت كتب التاريخ والسيّر، ومنها الكامل لابن الأثير :01-585، ومسلم والبخاري والترمذي، قصة صدعه بالدعوة، يوم صعوده على جبل الصفا؟ فعلا أعلاها حجراـ ثم هتف في الناس : “يا صاحباه!! يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب..” فلما اجتمعوا إليه قال “أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي، بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي”؟؟

يتبع…

مقالات متشابهة