18 يوليو، 2020
الحوار الجزائرية
أراء ثقافة مساهمات منوعات

رواية اختفاء السيد لا أحد… انقسام الذات بين الموجود والمنشود

 

رواية اختفاء السيد لا أحدلأحمد طيباوي:

انقسام الذات بين الموجود والمنشود

 

بقلم: د. رحمة الله أوريسي

 

يسلط أحمد طيباوي الضوء على الذات الإنسانية من خلال أشكال متعددة من الصراع في رواية “اختفاء السيد لا أحد”، الصادرة مؤخرا عن منشورات الاختلاف وضفاف بالجزائر ولبنان، في سعي الذات لتحقيق وجودها داخل نسيج من العلاقات الاجتماعية.

ونجد الكاتب يرتكز على فلسفة الوجود، واستحضار ظاهري مفاده العدمية، هذه الثنائية هي التي بُني عليها هذا النص الذي يمكن أن ندرجه في دائرة السهل الممتنع. فقد حاول الكاتب أن يفضح كل الممارسات الاجتماعية(المستشفيات/الإنسانية الزائفة من خلال شخصية البطل التي تموت حين يفقد البطل القيمة المادية وفي ذلك إحالة علي البرغماتية التي سيطرت على العقل الإنسان/النفعية الماركسية/التشتت ووهم الرابط الأسري من خلال شخصية مراد الذي تخلى عن والده) وكل ذلك يندرج تحت فكرة نقد الواقع بكل حيثياته.

“اختفاء السيد لا أحد” هي رواية الحدث بامتياز ذلك أن الروائي اختار لغة دقيقة وفي عدد قليل من الصفحات انتقى كلماته بعناية وحرص، لتقترب بذلك لغته إلى الشعرية في بعض المواضع، ولكنها في معظمها سهلة تمتلك حصانة رمزية ساخرة، تقول ظاهريا كل شيء، وتضمر في داخلها كل شيء أيضا، فعرض الشيء في كثير من الأحيان يعني إنكاره. طرح الروائي هنا فكرة البحث عن الوجود هو في الحقيقة إنكار لذات الإنسان وعدم نفعيته بدءا من البطل الذي لا يحمل رمزيات الحياة (لا يملك هوية، حتى إنه نكرة مجهولة؛ أي ضمير متكلم /لا أحد) ومن ثم يعيد الكاتب بناء الكون في سياق واقع مادي بذهنية المثقف الواعي، والإنسان الحي الذي يري في تفاصيل الحياة وجودا وفي إنكارها عدمية..

السيد لا أحد هو شخصية معادلة لجميع الشخصيات بحيث تتشظى الذات وتتفرع مع شخصيات السرد

السيد لا أحد الذي لا يعرف الحب والذي ظل عالقا في وهم فتاة مراهقة كانت تتبعه ثم اختفت، فظل يلهث وراء ذلك الحلم بعد أن جرب ممارسة الحب مع ممرضة شوهت له كل معالم الأنوثة، السيد لا أحد هو شخصية معادلة لجميع الشخصيات بحيث تتشظى الذات وتتفرع مع شخصيات السرد. زاول البطل أعمالا كثيرة، وقام بالكثير من الأفعال التي جعلت مشاعره متناقضة؛ فتارة نجده إنسانا، وتارة يتحول إلى شيطان، أو ابن بارّ، وتارة عاملا، أخرى فقيرا، فاجر سكير أحيانا ومصلّ متدين في أحيان أخرى، عاشق محب وملتزم.. هذه الوجوه التي تقلب بينها السيد لا أحد تعبر عن وجوه الشعب الذين ظلت الانكسارات ترافقهم وظل الجوع ينهشهم وظلت الخيبة تسكنهم، هذا الـلا أحد المجنون العاقل، والحكيم الساذج، والطيب الخبيث، هذا السيد لا أحد الذي ظل يبحث عن نفسه فوجد عدميته.

هناك حكمة وراء اختفائه وتماهيه مع هذه الجموع، هذا التماهي الذي يحمل بين طياته الكثير من الدلالات، من بينها أنه يعبر عن وجه من وجوه الجزائر التي بقيت موجودة ولكنها بدأت في التلاشي شيئا فشيئا. ويمكن أن نؤكد هذا التماهي في شخصية الضابط أو المحقق الذي ظل يراه في وجوه كثيرة، وهناك من أخبره بأنه كان يتنكر في شخصيات عدة. وركز الكاتب في بعض محطات سرده على العشرية السوداء، وقد مر السيد لا أحد بحالة اختطاف ونجا من الموت عندما اقتادته جماعة ملثمين إلى الجبل.

“السيد لا أحد”

في رحلة البحث عن “السيد لا أحد” سبب لنا الكاتب فوضى عارمة في الأحداث، وذلك ظهر من خلال حديثه عن كل شخصية على حدة، الأمر الذي أوصلنا إلى حد الشك في أن كل شخصية يعرضها في النص بأنها الشخصية المرجوة، والتي نبحث عن اختفائها، فلو تأملنا ما عرضه الكاتب من شخصيات في متون سرده لوجدنا بأن: المحقق رفيق، وعثمان لاقوش، وجلال الأعمش، وغيرهم من الشخصيات فيهم من السمات ما يشبه شخصية البطل/لا أحد، ففي كل مرة يخيل لنا بأننا سنفاجأ بوجود البطل الذي اختفى دون مقدمات، والذي ظل يبحث عن ذاته، ونفسه، فأنكرها ليجعلنا نلهث أيضا وراء البحث عنها، فلا ندركها حتى في نهاية، وعليه ظلت هذه الشخصية علامة استفهام.

إن السيد “لا أحد” في حقيقة الأمر هو كل تلك الوجوه، والتي أسس من خلالها الكاتب علاقات سردية مشتركة جعلنا نقر بذلك، السيد “لا أحد” الذي كان قليل خبرة، وشخصية ضبابية تائهة إلى الحد الذي جعل الجميع يستغله، السيد “لا أحد” الشخصية الجائعة المتعطشة للخبز، والتي نكرت ذاتها فأصبحت تقبل بكل ما يعرض عليها مقابل مبلغ من المال، الشخصية النكرة التي تبيع ضميرها وإنسانيتها بفلس واحد، وكل ذلك من أجل سد جوعها. هذه الشخصية التي تماهت مع شخصيات السرد، وتشظت فيهم بطريقة أو بأخرى، هي نفسها شخصية الشاب، الضعيف، الفقير، اليتيم الذي فقد جميع أحبابه بدءًا من والديه، وخالته التي تكبدت عناء تربيته فيما بعد بحكم أنها لم تنجب إلاّ البنات، والتي توفيت فيما بعد، هي نفسها الشخصية التي لم يسعفها الحظ إدراك طموحاتها، وهي نفسها شخصية الشاب المثقف الخريج الجامعي الذي ثبطته الظروف ولم يدرك في هذا الوطن عملا يرتزق به.

وهو أيضا الإنسان الذي ظل يصارع ضميره في البقاء مع صديق والده، وهو نفسه الشيطان الذي حوّل بيته لبيت دعارة مقابل مبلغ من المال ليكتشف في الأخير بأن الفجور فعل هين وسهل فيمارس الرذيلة مع إحداهن بعد أن ضاقت به الحياة، وقسوتها، وهو الشاب المتدين الذي التزم بالصلاة لفترة من الزمن وتاب إلى الله ثم ظل عن طريقه، وهو نفسه الزبال، والمرتشي، والخادم، وهو الخائن، والفاجر، والسكير، والقاتل في نظر الجميع، والمحتال حين كان يتقاضي من منحة الشيخ والد مراد ليستطيع إعالته وإعالة نفسه، وهو في مقابل كل ذلك الإنسان الذي يحمل ضميرا لازمه طيلة بقائه مع والد مراد طوال فترة مرضه حتى إنه كان لا يتركه وحده، وفي فترة غيابه كان ينصب شخصا ما ليبقى معه، وهو نفسه الذي استحمل أن يكون شخصا غير الذي ولد عليه، من حيث استحمال صوت الشيخ والد مراد الذي كان يناديه باسم ابنه فقط ليشعره باستمرارية، وديمومة شعور الأبوة. وهو نفسه الراوي الذي بدأ السرد بلسانه كشخصية داخل هذا السرد، ليصبح خارجا عن المتن السردي.

 

مقالات متشابهة