3 يوليو، 2020
الحوار الجزائرية
مساهمات

الخطاب السياسي في الجزائر : إلى أين ؟

محمد بوعزارة

كتبتُ العديد من المواضيع و المقالات عن مضامينِ و محتوى الخطاب السياسي في الجزائر .

اليوم سأتحدث عن مستقبل هذا الخطاب و عن صداه مستقبلا مع الجمهور، خصوصا بعد التطورات التي تسارعت منذ الحراك الشعبي الذي شهدته الجزائر على امتداد ما يزيد عن عام منذ الثاني و العشرين فبراير 2019 و إلى غاية تطبيق الحجر الصحي ، و ما انتهى إليه هذا الحراك من مآلات و تداعيات في المشهد السياسي سواء بإبطال مفعول العهدة الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ، أو بسقوط مجموعة من الأشخاص النافذين سقوطا حرا و مريعا جعل عددا منهم يقبع الآن في سجن البليدة العسكري ،بينما يوجد آخرون في سجن الحراش، و يَفرُ آخرون خارج الوطن نحو أماكن مجهولة و أخرى قد تكون معلومة لدى المعنيين بالأمر ، و لا أدري إنْ كانت القائمة ستبقى مفتوحة على أسماء أخرى ، فالأمر تحدده ملفات التحقيقات و القضاء المدني و العسكري معا.

يشكل الخطاب السياسي بالنسبة لأي بلدٍ تنشط فيه الأحزاب السياسية الفاعلة المعترَفُ بها حجرَ الزاوية في حياةِ و مستقبلِ أيِّ حزبٍ سياسي قصد الوصول إلى السلطة ، إذْ لا مستقبل في اعتقادي لأية ديمقراطية في العالم تقوم خارج ممارسة لعبة المنافسة السياسية .

كما أنه لا يمكن لأي حزب سياسي أن يخوض غمار انتخابات كيفما كانت صفتها رئاسية أو برلمانية أو محلية دون برنامج شامل مسنود بحملات انتخابية متعددة الجوانب، و بخطاب موزون و خطباء متمرسين في فن الخطابة .

و قد ذكر لي الراحل الكبير الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله ذات مرة في حديث ثنائي كان يدور بيننا حول دور المثقف و السياسي في حياة الأمة بأن السياسي المتميز يستطيع أن يُسقط خصمه السياسي بالضربة القاضية بمجرد جره إلى حلبة الصراع الفكري ، و أن فن الخطابة هو أكثر الأشكال تأثيرا في الخصم السياسي .

أتذكر أنه في أعقاب الإطاحة بالرئيس الراحل أحمد بن بلة رحمه الله في ما اصْطُلح عليه لدى البعض بالحركة التصحيحية للتاسع عشر جوان 1965 و التي قادها آنذاك وزير الدفاع الوطني و نائب رئيس الحكومة العقيد الراحل هواري بومدين رحمه الله ، و هي الحركة التي يصفها آخرون بانقلابٍ عسكري أن شعبية الراحل هواري بومدين كانت متدنية إن لم أقل في الحضيض بحكم الخطاب الشعبوي الطاغي لشخصية الرئيس بن بلة التي كانت ما تزال تشد الناس إليها .

و من ذلك أنني رحت ذات يوم في بداية عهد الراحل بومدين ــ و لم أكن وقتها أفقه شيئا لا في السياسة و لا في أبجديات الخطاب، أقول رحتُ أُحْصي عبارة ” على كل حال ” التي كان يرددها الرئيس بومدين باستمرار و بدون رابط ،فوجدتُ أنه قالها 47 مرَّة خلال مدة لا تتجاوز ثلاث دقائق ، و هي طبعًا عيبٌ في خطاب المسؤول الذي قاد حركة تصحيحية تلك الفترة ، و كان الناس ينتظرون منه أن يقنعهم بصواب و مصداقية حركته التصحيحية ضد أول رئيس للجزائر بعد استعادة استقلالها .

لكن الأسلوب الذي اتبعه الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله لاحقا في طريقة إلقاء خطبه و تغيير الخطاب بشكل جذري جعله يتحول لا إلى محبوبٍ شعبيا داخل الوطن حيث صارت عدة فئات من الجماهير تنتظر خطبه بلهفة، بل و إلى زعيم عبر العالم و خطيب متميز تتصيد وسائل الإعلام الدولية خطابه و تبرزُه في قنواتها و في صدر صحافتها .

فخلال مؤتمر قمة الدول الإسلامية بمدينة لاهور الباكستانية ترك الرئيس بومدين نص الخطاب الرسمي المكتوب جانبا و راح يخاطب قادة العالم الإسلامي بقوله : )إن الناس لا يدخلون الجنة و بطونهم خاوية (.

و قد روى لي الصديق الراحل محمد بومديني رئيس تحرير القناة الأولى للإذاعة رحمه الله في تلك الفترة ، و الذي غطَّى وقائع ذلك المؤتمر عام 1974 أن رئيس تحرير صحيفة “القبس” الكويتية اتصل بصحيفته بعد سماعه لخطاب الرئيس بومدين ، و طلب من هيئة تحرير الصحيفة أن يكون عنوانُ صفحتها الأولى هي تلك العبارة للرئيس الراحل بومدين ” الناس لا يدخلون الجنة و بطونهم خاوية ، كما أنه لا يمكن كذلك نسيان كيف كان تأثير خطاب الرئيس بومدين سواء في قمة الجزائر لحركة دول عدم الانحياز في سبتمبر 1973 بالجزائر، أو خطابه الشهير بالجمعية العامة للأمم المتحدة خلال دورتها التاريخية برئاسة الجزائر في أفريل 1974 ، و التي طالب فيها الرئيس بومدين بضرورة تغيير العلاقات الدولية وصولا إلى نظام اقتصادي دولي جديد أكثر عدلا و إنصافا لعالم الجنوب.

و لذلك فإن فن الإلقاء في الخطاب السياسي خصوصا يعد من العناصر الأساسية التي تجعل خطاب المسؤول أيًّا كان موقعه يصل إلى عقل المتلقي أو المخاطِب و يستولي على مشاعره و أحاسيسه، بل و يجعله يتأثر بهذا الخطاب و يقتنع بالأفكار و المحتويات الواردة في الخطاب، حتى لو كان المعني يعترض على كثير من النقاط الواردة فيه.

و قد وفرت التكنولوجيا المعاصرة الوسائل التقنية العديدة للخطباء و السياسيين خصوصا بما يحقق لهم مختلف وسائل الإقناع و التأثير في الجماهير سواء عبر القنوات التلفزيونية أو في وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى في القاعات الكبرى المغلقة التي يُعتمد فيها على تقنيات عدة تجعل الخطيب لا يعتمد على الورقة المكتوبة خلال إلقائه لخطابه عبر تقنية جهاز “téléprompteur ” أي شاشة التلقين ، و هي عبارة عن شاشة يتمكن خلالها المذيع أو الخطيب من قراءة ما كان يُكتب في ورقة في تلك الشاشة، و كأنه يخاطب المشاهد من خلال النظر إليه بدلا من القراءة العادية الخالية من التأثير في الورقة كما كان يحدث في السابق .

و هذا الجهاز يمكن التحكم في سرعته عند التوقف، أو من خلال الخروج عن النص لإضافة ما يمكن للمذيع أو الخطيب إضافته من كلام بقصد الإقناع و إحداث التأثير في المشاهد سواء كان جمهورا واسعا من خلال التلفزيون أو جمهورا محدودا في قاعة من خلال مهرجان أو تجمع لحشد شعبي كبير .

كما أن كثيرا من الخطباء صاروا يستعينون بمختصين في فن الإلقاء و مخارج الحروف و هو فن يتم تدريسه و تلقينه ليس لممثلي المسرح و السينما فقط، بل لزعماء و قادة الأحزاب و الدول ، فالفاصلة لها وزنها، و النقطة لها أهميتها، و التوقف بين الجملة و الجملة له قيمة أكبر ، بل إن النظر إلى المشاهد بالنسبة للتلفزيون و الوسائل البصرية المعاصرة عموما قيمة فنية كبيرة مضافة للتأثير في المشاهد و إقناعه من طرف الخطباء.

و بالرغم من كل هذا، فإن هناك مشكلةً أعمق في الخطاب السياسي بالجزائر تتجاوز فنيات الإلقاء ،و هي ضعف محتوى الخطاب و عدم تمكن معظم الخطباء السياسيين في مختلف الأحزاب الناشطة في الساحة الوطنية من إعداد خطب ذات مضمون جيد .

و يبدو لي من خلال المتابعة أن مرد هذا هو خلو العديد من الأحزاب من المثقفين و الكفاءات، و كذا عزوف الجامعيين عن النضال و انزواء المناضلين السياسيين المتمرسين في فن الخطاب على أنفسهم بعد أن طالتهم مظاهر التهميش و الإقصاء من طرف مجموعة من الانتهازيين و الرديئين الذين تحالفوا مع بعض رجال المال الفاسد و قاموا بتصحير الحياة السياسية داخل العديد من الأحزاب ، حيث صرنا نرى كيف أساء المال الفاسد للعمليات الانتخابية خاصة بالنسبة لمجلس الأمة .

و قد لاحظنا أن هذا الوضع جعل خطابات مختلف الأحزاب بما فيها الأحزاب التي كانت توصف بالأحزاب الكبرى أو أحزاب السلطة ينحدر إلى الحضيض ، بل إن بعض تلك الخطابات تحولت إلى محل استهزاء و تعليقات ساخرة من طرف العديد من المتعاطين مع مختلف شبكات التواصل الاجتماعي .

و لعل مَنْ يعود إلى الخطابات التي سبقت التعددية التي كرسها دستور 1989 يجد فيها شيئا من المتعة و الفكر و حجة الإقناع ، فقد كانت خطب الراحليْن محمد الشريف مساعدية و عبد الحميد مهري اللذين لم يتخرجا من مدارس سياسية عريقة تُلهب حماس الجماهير ، مثلما كانت تعبر عن فكر عميق في مضمون خطابات مختلف قياديي جبهة التحرير الوطني .

بل إن خطابات العديد من خطباء الحركة الوطنية قبل ذلك ، بما فيهم مصالي الحاج و الفضيل الورتلاني عن حزب الشعب و حركة الانتصار و البشير الابراهيمي و توفيق المدني عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و غيرهم كانت تشكل ملامح خطاب واضح و مقنع يرسم معالم طريق المستقبل المنشود لاستعادة الاستقلال و يمجد الحرية.

و قد ذكر لي الصديق الراحل الأستاذ الطاهر بن عائشة رحمه الله أنه شعر مع عدد زملائه الذين كانوا يدرسون في جامع الزيتونة خلال أربعينيات القرن الماضي بأنهم وجدوا أنفسهم بمثابة تلاميذ في علم السياسة أمام الأستاذ عبد الحميد مهري الذي جاء ليلقي خطابا سياسيا أمامهم بالرغم من أنه كان أصغرهم سنا في تلك الفترة .

و لذلك فإن الخطاب السياسي ليس مجرد عبارات يرددها السياسي، و لكنه يحمل مضامينَ و أفكارا في قمة السمو و الوضوح و يقدم طروحات و رؤى مستقبلية بأسلوب سهل مؤثر ينفذ إلى عقل و مشاعر المستمع .

كما أن الخطيب محكوم عليه أن لا يتيه أو يسترسل في كلام غير محسوب قد يتسبب له أو لحزبه في خسارات سياسية كبيرة ، و ربما يُدخل بلده في مشاكل و صراعات مع جهات وطنية و ربما إقليمية و دولية بفعل زلات اللسان التي تكون نتيجة ضحالة فكر إن لم يكن الأمر ناتجا عن ضعف في الأداء و الخطاب السياسي ، و قديما قالوا اللسان عطَّاب .

 

 

مقالات متشابهة